سورة يس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا} وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] والثاني: أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد، فرآه ساجداً فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه.
والثالث: وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام؟ نقول الوجه الأول: له مناسبة وهي أن قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يس: 7] يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] وذكرنا أن المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلاً والتفسير هو الوجه الثالث.
المسألة الثانية: قوله: {فَهِيَ} راجعة إلى ماذا؟ نقول فيها وجهان:
أحدهما: أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه مجموعة في الغل إلى عنقه وثانيهما: وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال، معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه.
المسألة الثالثة: كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سداً ومن خلفه سداً فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعاً كالمغلول الذي يجعل ممنوعاً من إبصار الطريق الحسي، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق، ويصدق هذا قوله: {مُّقْمَحُونَ} فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهم مقمحون لا يخضعون الرقاب لأمر الله.


{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}
يكون متمماً لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان. إما باتباع الرسول أولاً فتلوح له الحقائق ثانياً وإما بظهور الأمور أولاً واتباع الرسول ثانياً، ولا يتبعون الرسول أولاً لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانياً، ولا يظهر لهم الحق أولاً لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانياً وفيه وجه آخر: وهو أن يقال المانع، إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجاً عنها، ولهم المانعان جميعاً من الإيمان، أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أعناقهم} [يس: 8] {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق، وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} مسائل:
المسألة الأولى: السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بين أيديهم سداً فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟ فنقول الجواب عنه من وجوه:
الأول: هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: جعلنا من بين أيديهم سداً فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية {وجعلنا من خلفهم سداً} فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني: هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث: هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى إهلاكهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {فأغشيناهم} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فكيف ذلك؟ فنقول ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك بياناً لأمور مترتبة يكون بعضها سبباً للبعض فكأنه تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا} فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذٍ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: وجعلنا على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئاً، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريباً من العين جداً.
المسألة الثالثة: ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟ فنقول، أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر، وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك، فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سداً ووجه آخر: أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سبباً للإغشاء كان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئاً، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة، وغير ضال.


{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}
أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار؟ نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} وما قال سواء عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلاً وسعادته آجلاً، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8